سورة الأنبياء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
لما كان لوط- عليه السلام- هو الذي استجاب لإبراهيم من قومه، واتّبعه وآمن به، فقد كان من فضل اللّه سبحانه وتعالى عليه، أن اصطفاه للنبوة، وآتاه حكما وعلما، إذ كان هو النبتة الصالحة من بين هذا النبت الخبيث كله.
ثم نجاه اللّه سبحانه وتعالى من العذاب الذي أخذ به قومه وأهلك به قريته، التي كانت تعمل الخبائث، وتأتى المنكر جهارا.. وهكذا ينصر اللّه المتقين من عباده، ويفيض عليهم من كرمه وإحسانه، ويأخذ الظالمين المفسدين بالعذاب البئيس، جزاء بما كانوا يعملون.
قوله تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ}.
{وَنُوحاً} معطوف على {لُوطاً} وهو عطف حدث على حدث، وقصة على قصة.. والتقدير ونذكر نوحا إذ نادى ربه من قبل هذا الزمن الذي كان فيه هؤلاء الأنبياء.. إبراهيم، ولوط، وموسى، وهرون.. {فَاسْتَجَبْنا لَهُ} أي أننا استجبنا دعاءه الذي دعانا به، على قومه.
ودعاء نوح على قومه، هو ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [10: القمر] وفى قوله سبحانه: {وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً} [26: نوح].
وقد استجاب اللّه سبحانه وتعالى لنوح، فأهلك قومه جميعا بالغرق، ونجاه هو ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل.
و{الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}: هو الطوفان.
وفى قوله تعالى: {وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} جاء حرف الجرّ {من} بدلا من على الذي يقتضيه الفعل، فإن نصر يتعدّى بعلى لا بمن تقول نصرت فلانا على فلان.. وذلك لأن الفعل هنا تضمّن، معنى الانتقام والانتصاف لنوح من قومه، إذ كانوا هم الذين اعتدوا عليه، وبادءوه بالسفاهة، وتوعدوه بالسوء، وتهددوه بالرجم- فكان نصر اللّه له انتصافا لنوح منهم، وانتقاما له من عدوانهم عليه.. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي أخذنا له بحقه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، واعتدوا على رسولنا، وانتصفنا له منهم.
ولو جاء النظم القرآنى على ما يقضى به مطلوب الفعل نصر فكان النظم هكذا {نَصَرْناهُ} على القوم الذين كذبوا بآياتنا، لما أعطى الفعل هذا المعنى الذي أفاد النصر، والانتقام معا، والذي دلّ على أن القوم كانوا معتدين، ظالمين.. ولوقف بمعنى النصر عند حدود هذا المعنى المجرد، الأمر الذي يمكن أن يفهم منه النصر على أنه نصر بين متخاصمين، لا يعرف منهما المحقّ من المبطل منهما.. وكثيرا ما ينتصر المبطل، ويهزم المحق، في مرحلة من مراحل الصراع الدائر بين الحقّ والباطل! فسبحان من هذا كلامه، الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
قوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً}.
نفشت فيه غنم القوم: أي عاثت فيه فسادا، وانطلقت ترعى بغير ممسك يمسك بها على مكان معين من الحرث.. وأصل النفش: الانتشار، ومنه قوله تعالى: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}.
والحرث: هو الزرع، الذي هيئت له الأرض وحرثت، وبذر فيها الحب.. وليس هو الزرع الذي ينبت من غير جهد إنسانى.
وداود وسليمان، هما النبيان الكريمان، من ذرية إبراهيم، ومن أبناء يعقوب.. وداود هو الأب، وسليمان هو الابن.
وهذه الآية الكريمة تمسك بحدث من الأحداث التي وقعت لداود وسليمان.. وكان داود في مجلس الحكم والفصل بين الناس، فيما يقع بينهم من خصومات.
وقد ذكر القرآن الكريم لداود قصة أخرى من قصص الفصل في الخصومات وهى قصة الأخوين اللذين كان لأحدهما نعجة وللآخر تسع وتسعون نعجة.
وقد جاء في أعقاب هذه القصة قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [26: ص].
وفى هذه القصة، يشير القرآن إشارة لامحة إلى أن داود لم يعرف كيف يفصل في هذه القضية، أو أنه فصل فيها فصلا لم يصب مقطع الحق منها.. وهذا لا يعيب داود عليه السلام، ولا ينقص من قدره، لأنه فصل بما أدى إليه اجتهاده.. فإذا أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.. هذا هو حكم المجتهد، الذي تجرد من هواه.. ولا شك أن داود كان أبعد ما يكون عن الهوى.
ففى قوله تعالى: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} إشارة إلى أن سليمان هو الذي عرف وجه الحق في هذه القضية، ووقع على الرأى الصحيح فيها.. وذلك بفهم آتاه اللّه سبحانه وتعالى إياه.. كما يقول سبحانه: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} وقوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} هو تعقيب على قوله تعالى {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} الذي قد يفهم منه أن سليمان قد أوتى فهما من اللّه وأن داود قد حرم هذا الفهم، فكان ذلك دافعا لهذا الوهم.. إذ أن كلّا من داود وسليمان، قد لبس من فضل اللّه ومن إحسانه حللا، وأن كلّا منهما قد أوتى من اللّه حكما وعلما.. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أكثر علما من الآخر، فالعلم درجات لا حدود لها واللّه سبحانه وتعالى يقول: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [76: يوسف].
والقرآن الكريم لم يكشف عن تفاصيل هذه القضية. ولم يتحدث عن الحكم الذي حكم به داود فيها، ولا عن وجهة نظر سليمان فيما حكم به أبوه.
ذلك أن كل هذا لا يقدّم شيئا في تحقيق الغاية التي جاءت لها القصة، وهو أن الفصل في الخصومات بين الناس أمر خطير، يحتاج إلى علم واسع، وبصيرة نافذة، ونفس تجردت من كل هوى، وإلا كان الخطأ والزلل، الذي من شأنه إن شاع أفسد حياة الناس، وأغرى بعضهم ببعض.. ومن جهة أخرى فإنه مهما بلغ الإنسان من علم، ومهما أوتى من نفاذ بصيرة، ومن قدرة على التجرد من الهوى، ومهما تحرّى العدل واجتهد في تحقيقه، فإنه قد يقع له أحيانا من المشكلات ما يغيم عليه فيه وجه الحق، ويغيب عنه وجه الصواب.
ومن هنا كان على من يقوم للفصل في الخصومات، أن يكون على حذر دائما، وألّا يعجل بالرأى الذي يظهر له لأول نظرة، بل يقلب وجوه النظر كلها، ويعرض بعضها على بعض.. فما كان منها أقرب إلى الحق والعدل أخذ به.. وفى هذا يقول النبي الكريم: {إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما، هى قطعة من النار، فليأخذها أو يدعها..}.
هذا- واللّه أعلم- هو المقصد الذي جاءت له هذه القصة.. وهى في هذا النظم الذي جاءت عليه، مؤدية- في أكمل أداء وأتم صورة، وأعجز إعجاز وإيجاز- المقصد الذي قصدت إليه.
أما القصة، فهى- كما جاءت في روايات المفسرين وأصحاب السير- تتلخص فيما يلى، وهو مما يروى عن ابن عباس: كان لجماعة زرع، وقيل كرم تدلّت عنا قيده، وكان لآخرين غنم ترعى قريبا من هذا الزرع أو الكرم، فغفل عنها رعاتها، فانطلقت إلى الزرع، فانتشرت فيه، وعاثت في أرجائه.
وجاء أصحاب الزرع يشكون أصحاب الغنم إلى داود، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث!.. فلما لقى سليمان أصحاب الغنم قال لهم: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا، فلما علم داود بذلك دعاه، فقال: كيف تقضى بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث فيكون لهم أولادها وألبانها وصوفها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الحدّ الذي كان عليه، أخذه أصحاب الحرث، وردوا الغنم إلى أصحابها. فقصى داود بهذا!!
وهكذا رأى داود وجه الحقّ، فأخذ به، ولم يمسك حكمه الذي استبان له أولا.
قوله تعالى: {وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ}.
{صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}: اللبوس هنا ما يلبس للحرب، من دروع وغيرها.
{لِتُحْصِنَكُمْ} أي تكون لكم حصنا ووقاية في القتال.
{مِنْ بَأْسِكُمْ}: أي من عدوان بعضكم على بعض.. والبأس: الشدّة، والقوّة.
وهذه الآية هى تفصيل لمجمل قوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً}، وهى- من جهة أخرى- دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب لبعض العقول من قوله تعالى: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} والذي قد يقع منه في الفهم. انتقاص لقدر داود عليه السلام.
فداود عليه السلام. نبىّ كريم عند اللّه، محفوف بفضله وإحسانه.
ومن فضل اللّه عليه أنه سخّر معه الجبال والطير، تسبّح جميعها بحمد اللّه، وتشكر له.. فإذا سبّح بحمد اللّه، وجد الوجود كله من حوله، من جماد وحيوان، يسبّح معه، ويأتمّ به في هذا التسبيح، فيكون من ذلك كلّه نشيد متناغم، يملأ أسماع الكون، فتفيض به مشاعر داود، ويرتوى منه قلبه، ويصبح كيانه كلّه نغما منطلقا بتمجيد اللّه، مترنّما بتقديسه وحمده.
وفى قوله تعالى: {وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} إشارة إلى أن هذه الكائنات، من جبال وطير، مسخرات من اللّه، لتسبيحه وتمجيده، كما سخّر داود من اللّه لتسبيحه وتمجيده، وأنها قد انضمت مع داود وتجاوبت معه، وائتلفت به.. وهذا ما جعل لداود هذا الإحساس بها، حين أزيل الحجاب بينه وبينها، الأمر الذي لا يشاركه فيه كثير من العابدين المسبّحين.. وإلّا فإن الوجود كله في أرضه وسمائه، وفيما تحتوى أرضه سماؤه، يسبّح بحمد اللّه، ويصلّى له، ويمجّده، كما يقول سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [44: الإسراء].. وهذا هو السرّ في قوله تعالى: {مَعَ داوُدَ} بدلا من {لداود}.
فالجبال والطير هنا مسخرة معه للتسبيح والتمجيد، وليست مسخرة له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [10: سبأ].
وفى قوله تعالى: {وَكُنَّا فاعِلِينَ} إشارة إلى أن هذا الفضل من اللّه سبحانه على داود، كان بتقديره، وبما أوجبه جلّ شأنه على نفسه من الإحسان إلى المحسنين من عباده.. وقد كان داود أحسن خلق اللّه صوتا.. وقد جعل {الزّبور} ترانيم، ذات نغم شجى، يسبح فيه بحمد اللّه.. فتتجاوب مع صوته الكائنات من جماد وحيوان.
قوله تعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ}.
أي أن من فضل اللّه تعالى على داود، أن علمه صنعة الدروع. بعد أن ألان له الحديد، كما يقول سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [10، 11: سبأ].
وفى قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} إشارة إلى أن هذه الدروع، هى مما يدفع به اللّه بأس الناس، ويردّ به عدوان بعضهم على بعض.. وهى نعمة تستوجب من الناس الحمد والشكر للّه رب العالمين.
وهنا سؤال:
كيف تكون هذه الدروع نعمة من نعم اللّه، تستوجب الحمد والشكر، وهى أداة من أدوات الحرب، وعدّة من عدده؟ ثم هى من جهة أخرى، قد تكون قوة من قوى البغي والعدوان، يفيد منها أهل البغي والعدوان أكثر مما يفيد منها أهل الاستقامة، والسلامة؟
والجواب على هذا، من وجوه:
أولا: أن هذه الدروع فيها حصانة، وصيانة لكثير من الدماء التي كان يمكن أن تراق، وللأرواح التي كان يمكن أن تزهق في القتال الذي يلتحم بين الناس.. فهى- كما ترى- عامل مخفف من ويلات الحرب، ودافع لكثير من شرورها.. فلو قدّر أن يلتقى في ميدان القتال أعداد من المتقاتلين بدروع وآخرون مثلهم بغير دروع، لكان حصيد الحرب، وحصيلتها من الدماء والأرواح في الميدان الأول، أقلّ بكثير جدا مما يقع في الميدان الآخر.
إذ كان الأولون يقاتلون وهم في هذه الحصون من الدّروع، على حين يقاتل الآخرون وهم في معرض الهلاك مع كل طعنة أو ضربة!: فهذه الدروع نعمة تستوجب الشكر من الناس جميعا، أقويائهم وضعفائهم على السواء.
ولا يدفع هذا، بالقول بأن هذه الدروع فد تغرى الناس بعضهم ببعض، وتدفع بهم إلى القتال، إذ يجدون في أيديهم ما يدفع عنهم خطر الحرب، ويبعد من احتمال الموت فيها.
فهذا القول، وإن بدا في ظاهره شيئا مقبولا، إلا أنه في حقيقته قائم على غير هذا الوجه.
ذلك أن كل قوّة مستجلبة غير القوى الجسدية الإنسان، هى متاحة للقوىّ والضعيف منهم، وأن الضعيف، يستطيع بهذه القوى المستجلبة أن يبطل فضل صاحب القوة الجسدية عليه، وبهذا يتعادل الأقوياء والضعفاء، ويكون من ذلك أن يكبح جماح أصحاب القوى الجسدية، التي كانت أظهر قوة عاملة، في مجال البغي والعدوان وفى تسلط الأقوياء على الضعفاء.
وننظر في المجتمع الإنسانى اليوم، فنجد أن اختراع القنبلة الذرية، التي هى أشنع ما عرف من أدوات التدمير والإهلاك.. قد كانت في أول أمرها يوم وقعت ليد أمة من الأمم، كانت مصدر خطر عظيم في يد هذه الأمة، تكاد تهدد به العالم، ولكن سرعان ما سعت غيرها من الأمم إلى امتلاك هذه القوة الرهبية، وسرعان ما بطل مفعولها أو يكاد يبطل، حيث أنها نذير بالشرّ العظيم للأطراف المتحاربة بها جميعا.. وهنا نلمح إشارة مضيئة من قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تشير إلى قوله تعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ} فالقصاص إزهاق نفس، ولكن فيه حياة لنفوس، إذ أن القصاص يقتل في نفوس، كثير من الناس ممن تحدثهم أنفسهم بالقتل- يقتل فيهم تلك النزعة الداعية إلى القتل، خوفا من أن يقتل القاتل بمن قتله.. وكذلك الدروع التي يلبسها المتحاربون، هى وقاية لكل منهما من عدوان الآخر عليه.
وليس هذا شأن الدروع وحدها، بل هو شأن كل وسائل القتال، والدفاع.
فهى وإن كانت أداة تدمير وهلاك، هى في الوقت نفسه عامل ردع وزجر.
بل إنها دعوة إلى السلام، وإخماد نار الحروب، إذا توازنت القوى بين الأمم.
وقد كان من تدبير اللّه تعالى، أن وضع هذه الدروع أول ما وضعها في يد نبىّ كريم، لا يكون منه بغى أو تسلط.. ثم أصبحت ملكا مشاعا في الناس جميعا.
وثانيا: أن القرآن الكريم في حديثه عن الدروع، وعن أنها نعمة تستوجب الشكر، إنما يتحدث إلى المجتمع الإنسانى، الذي من طبيعته البغي والعدوان، والذي من شأن القوىّ فيه أن يبغى على الضعيف، والذي إن كفّ فيه بعض الناس أيديهم عن الناس، لم تكفّ الناس أيديهم عنهم.. وعلى هذا فإن حديث القرآن عن الدروع، هو حديث عن واقع الحياة، وعما يدور في حياة الناس.. فامتلاك الناس لأدوات الحرب لا يغريهم بالحرب، ولا يفتح لهم بابا لم يدخلوه، فهم في حرب دائمة.. وهذه الدروع وغيرها من أدوات الدفاع حماية للناس من الطعنات والضربات.
وثالثا: هذه الدروع أو لبوس الحرب، لها دور سلبىّ لا إيجابى، بمعنى أنها- في ذاتها- تدفع الشر، وتردّه، ولا ينطلق منها شر إلى أحد.
كما هو الحال في السيوف، والحراب، والمدافع، وغيرها.. إنها أداة دفاع، وليست أداة هجوم.. إنها تتلقى الضربات، ولا تضرب، ولا يضرب بها.
قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}.
أي وكذلك سخّرنا لسليمان الريح عاصفة.. وقد بيّنا في الآية السابقة السرّ في تعدية الفعل {سَخَّرْنا} بأداة المعية {مع} وعدم تعديته بلام الملك اللام وقلنا إن الجبال والطير لم تكن مسخرة لداود، بل كانت مسخّرة لتسبّح بحمد اللّه معه.. فهى مصاحبة له، في التسبيح.. وليست مسخّرة لخدمته.
أما هنا، فإن الريح مسخرة لسليمان، خاضعة لأمره، قد جعلها اللّه سبحانه وتعالى، مطية ذلولا له، تجرى بأمره رخاء حيث شاء.
وفى قوله تعالى: {عاصِفَةً} إشارة إلى قوة انطلاق هذه الريح، وأنها في قوة العاصفة في اندفاعها، ولكنها في رقّة النسيم ولينه في سيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} [36: ص] فهى عاصفة ورخاء معا!! هذا كلام اللّه!!- وفى قوله تعالى: {إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها} إشارة إلى مسبح هذه الريح ومسراها، وأنها لا تتجاوز حدود الأرض المقدسة، ولا تعمل خارج سمائها.
وهذا ما ينبغى أن يفهم عليه قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} [12: سبأ] فقد تضاربت أقوال المفسّرين في هذه الريح، وفى امتداد ملك سليمان بها، وأنها كانت تقطع به ملكه في شهر ذاهبة، وشهر راجعة.. وهذا ما لا يتسع له ملك سليمان بحال أبدا.
والمعنى الذي تفهم عليه هذه الآية الكريمة، هو المعنى الذي يشعّ من قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها} وهو أنها في {غُدُوُّها} أي مسراها في غدوة النهار، تقطع من المسافة ما يقطعه السائر على قدميه، أو على دابته في شهر.. كذلك {رَواحُها} وهو رجوعها آخر النهار.. يقدّر بمسيرة شهر للراجل أو الراكب.. والغدوة قد تكون ساعة أو ساعتين، أو ثلاثا، أو أكثر، وكذلك الرّوحة.
قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ}.
أي وسخرنا لسليمان {مِنَ الشَّياطِينِ} أي من بعض الشياطين لا كلّهم، من يغوصون له في البحار ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان وغيرها.. {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ} أي أقل من هذا العمل، كأن يسخّروا في البناء، وحمل الأحجار، وغير هذا.. كما يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [37: ص].
وفى قوله تعالى: {وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ} إشارة إلى أنهم محكومون بقدرة اللّه، وأن تلك القدرة هى الحافظة لهم، والممسكة بهم، على خدمة سليمان، وطاعة أمره.. ولو لا هذا لتفلّتوا منه، وخرجوا عن طاعته، فليس سليمان هو الذي سخر هذه الشياطين، وإنما اللّه سبحانه وتعالى هو الذي سخرها له.


{وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)}.
التفسير:
أولياء اللّه وما يبتلون به:
قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ} وهو عطف قصة على قصة. أي واذكر أيوب إذ نادى ربّه.
وذكر أيوب في هذا المقام، هو ذكر له دلالته العظيمة، وذلك من وجوه:
أولا: أن أنبياء اللّه وأصفياءه يبتلون بالضرّ، كما يبتلى الناس، بل وكما يبتلى شرار الناس.. وأنه كما يبتلى الناس بالخير والشرّ، كذلك يبتلى الأنبياء بالخير والشر.
فأنبياء اللّه وأصفياؤه، يبتلون من اللّه فيزدادون إيمانا وقربا منه، وطمعا في رحمته.. وأعداء اللّه يبتلون فيزدادون بعدا من اللّه، وكفرا به، ومحادّة له.
وثانيا: أن أنبياء اللّه وأصفياءه، إذا ابتلوا في شيء من أنفسهم أو أموالهم ضروا إلى اللّه، وبسطوا إليه أكفهم وولّوا إليه وجوههم، وطرقوا أبواب رحمته بالدعاء والرجاء.. فباتوا على أمن من كل خوف، وعلى طمع ورجاء من كل خير.
وثالثا: أن اللّه سبحانه وتعالى، يتقبل من عباده المخلصين ما يدعونه به، فلا يقطع أمداد رحمته عنهم، ولا يخيّب رجاءهم فيه.
وانظر إلى هذا الأدب النبوي العظمى، في مناجاة الخالق جلّ وعلا.
فأيوب- عليه السلام- مع هذا البلاء العظيم، الذي شمله في نفسه وأهله وماله جميعا، لم يستبدّ به الجزع، ولم تستول عليه الحيرة، ولم تحرقه أنفاس الضيق والألم.. بل ظلّ مجتمع النفس، ساكن الفؤاد، رطب اللسان بذكر اللّه.
فلما اشتد به الكرب، ورهقه البلاء، وأراد أن يذكر نفسه، ويشكو لربّه ما يجد، لم يزد على أن يقول بلسان رطب بالصبر، وبأنفاس نديّة بالإيمان:
{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وكان أن سمع اللّه دعاءه، واستجاب له.
{فَاسْتَجَبْنا لَهُ.. فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ}.
وهكذا يجزى اللّه المحسنين الصابرين.. كما يقول سبحانه: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}.
لقد كشف اللّه عن أيوب الضر الذي أصابه في جسده، ورزقه من البنين والأموال ضعف الذي ذهب منه.
وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا} أي أن ذلك العطاء كان رحمة منّا، أصبنا بها عبدا من عبادنا المخلصين.
وقوله تعالى: {وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ} معطوف على {رحمة} أي وكان ذلك الذي فعلناه بعبدنا {أَيُّوبَ} تذكرة وموعظة {لِلْعابِدِينَ} أي الذين يعبدون اللّه، ويحسنون عبادته، ويصطبرون عليها.
فالعابدون بما لهم من صلة باللّه، ربّما يقع في نفوسهم أنهم بمنجاة من الابتلاء بالشر، إذ لا يكاد يقع في تصوّر الناس أن من وثّق طلته باللّه، وتقرب بالعبادات والطاعات إليه، هو في مأمن مما يقع للناس من ضرّ وأذى، في نفسه أو ولده أو ماله.. وإلّا فما ثمرة هذه الصلة، وما فضل الطائعين على العاصين، والأولياء على الأعداء؟
هذا ما جاء قوله تعالى: {وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ} لينبه إليه، وليصحّح مشاعر العابدين خاصة، بهذا الذي كان منه سبحانه لعبده أيّوب- عليه السلام- وما ابتلاه به، في نفسه، وأهله، وماله، بما لم يكد يبتلى به أحد من عباد اللّه..!
وقد كان أيوب- عليه السلام- من خير العابدين المقربين إلى اللّه، حين مسّه الضرّ، كما كان من خير الصابرين على البلاء، الطامعين في رحمة اللّه، المطمئنين إلى قضائه في عباده، الواثقين بحكمته وبعدله.. بعد أن لبسه الضرّ وعاش فيه.
وإذن فليس المؤمنون، العابدون، الساجدون، بمعزل عن الابتلاء بالضرّ والأذى، بل إنهم أكثر الناس تعرضا للبلوى، وذلك ليبتلى اللّه ما في صدورهم، وليمحص ما في قلوبهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [186: آل عمران] ويقول سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [2: العنكبوت].
فأولياء اللّه وأحباؤه هم أكثر عباد اللّه تعرضا للابتلاء، إذ كان ذلك هو الدواء المرّ، الذي تذهب الجرعة، منه بكثير من أمراض النفوس وعللها، وهو النار المحرقة، التي تنصهر في حرارتها معادن الرجال، فتصفّى من الخبث وتنقّى من الغثاء والزّبد! وبهذا تظهر عظمة الإنسان، وتصفو موارده، ويصبح- على ما يبدو عليه من ضعف، وفقر- أقوى الأقوياء، وأغنى الأغنياء، ينظر إلى الدنيا، وحطامها، وما يتفاخر به الناس فيها من مال، وجاه، وسلطان- نظرته إلى أطفال يتلهون بلعبهم، ويزهون بالجديد من ثيابهم! ثم لعلك تسأل: أما كان غير هذا البلاء، أولى بهم، وهم أحباب اللّه وخلصاؤه؟ أو ما كان الإحسان إليهم بالخير أليق من التوجه إليهم بالمساءة والضرّ؟ وإذا لم يكن الإحسان.. فهلا كانت العافية من البلاء؟ وإذا كان هذا الابتلاء مرادا لغاية هى تطهير النفوس، وتزكيتها، وتخليصها من الآفات والعلل.. فهلا كان ذلك بالإحسان والإنعام.. وقدرة اللّه لا يعجزها شىء، ولا يحدّها حدّ، ولا يقيدها قيد؟
والجواب عن هذا كله:
أولا: أن اللّه سبحانه وتعالى كما ابتلى بالخير، ابتلى بالشر، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [35: الأنبياء].. وقد ابتلى اللّه- سبحانه- سليمان عليه السلام بالكثير الغدق من النعم، فسخّر له الريح والجنّ، وعلّمه لغة الحيوان والطير، وجعلها جنودا من جنده، ووضع بين يديه من القوى الظاهرة والخفية، ما جعل له ملكا وسلطانا لم يكن لأحد من بعده كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [35: ص] وقد أجاب اللّه سبحانه وتعالى ما طلب، فقال سبحانه: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [36- 39: ص] حتى إن سليمان نفسه ليستكثر هذا الإحسان الذي لا يكاد يتسع له وجوده، فيقول: {يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [16: النمل] وحتى إنه ليجد نفسه عاجزا عن الوفاء بشكر القليل من هذا الفضل العظيم، فيقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ} [19: النمل].
فالابتلاء بالإحسان والخير، عند من يعرف قدر الإحسان، وفضل المحسن وجلاله وعظمته- لا يقلّ مئونة وعبئا، عن الابتلاء بالمساءة والضر.. إنه ابتلاء!
وقد ابتلى اللّه سبحانه بعض أوليائه بالضر والمساءة، فكان ذلك- في حقيقته- إحسانا إليهم، إذ سلك بهم مسالك الخير والإحسان، وزادهم من اللّه قربا ومن رضاه رضى وزلفى.
وانظركم لقى رسول اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم- وهو صفوة خلق اللّه وخاتم رسله- كم لقى على مسيرة دعوته، وفى سبيل رسالته، من أذى؟ وكم احتمل من مساءة وضرّ؟
أفرأيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حين خرج إلى ثقيف، يرجو عندهم من استجابة للّه ورسوله، ما أبته عليه قريش، حتى إذا التقى بسادة ثقيف، وعرض عليهم الإيمان باللّه، ردّوه أشنع رد، ثم أغروا به سفهاءهم، فرجموه حتى أدموه.. ثم أرأيت إلى رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وقد أخذ طريقه إلى خارج ثقيف، وهو يحمل هذا الهمّ الثقيل، حتى إذا بلغ إلى حيث انقطع عنه صوت الكلاب البشرية التي كانت تنبحه، أسند ظهره إلى ظل شجرة هناك، ومولاه زيد يضمد جراحه.. ثم ما كادت نفسه تهدأ، وأنفاسه تنتظم، حتى رفع رأسه إلى السماء، وناجى ربه، بتلك الكلمات الضارعة المشرقة، التي تنبض حياة بمشاعر الإيمان، وأنفاس التسليم والرضا استمع إليها: «إلهى أشكو إليك ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس! يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى؟ أو قريب ملّكته أمرى؟ إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى غير أن عافيتك هى أوسع لى! أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحلّ علىّ غضبك، أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
إنها مناجاة، يتنفس فيها النبي أنفاس العافية، ويطعم منها طعم الرضا، ولهذا طالت تلك المناجاة، ومشت كلماتها الهوينا على شفتى رسول اللّه، كأنها تحمل أثقالا من الهموم التي ألمت به، وتنطلق بها في قافلة طويلة ممتدة بين الأرض والسماء!! ثم انظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد، وقد أحاط به المشركون، وتعاورته سهامهم ورماحهم، وكادت تصل إليه سيوفهم، وقد شجّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وكسرت ثنيتاه، واستشهد كثير من أصحابه، وأحبابه، ومن بينهم عمه، أسد اللّه، حمزة بن عبد المطلب. ومع هذا، فما قال النبي في هذا المقام، إلا القولة التي لا يقولها إنسان غيره في هذه الدنيا.
قال- صلوات اللّه وسلامه عليه: «اللهم اهد قومى، فإنهم لا يعلمون»!! وكما ابتلى اللّه سبحانه، أولياءه بالبأساء والضراء، ابتلى أعداءه بالنعماء والسراء، فكان ذلك بلاء عليهم، ونقمة من نقم اللّه بهم.. لقد زادتهم تلك النعم بعدا عن اللّه، وعمى عن الحق، وضلالا عن الهدى.
والقرآن الكريم يذكر لنا قارون، كمثل من أمثلة الابتلاء بالنعم، عند من لا يقدر على الوفاء بها، ولا يقدرها قدرها، فكان أن عجل اللّه له الهلاك في الدنيا، ثم أعدّ له عذاب السعير في الآخرة.. وكذلك فرعون، الذي بسط له في السلطان، وأمدّه بموفور النعم، فما زاده ذلك إلا كفرا باللّه، ومحادة له.
فمات تلك الميتة الشنعاء، وكان مثلا وعبرة لأولى الأبصار.
أما في الآخرة، فهو إمام من أئمة الضلال، وقائد من القواد إلى عذاب الجحيم.. {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [98: هود].
وثانيا: لا شك أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يعفى أولياءه من البلاء وأن يجعل ابتلاءهم بالسراء لا بالضراء، وأن يجعلهم طبيعة قائمة على الحمد والشكر، وفطرة مفطورة على الاحتمال والصبر.
ولكن هذا وإن كان مما يفعله اللّه ببعض عباده وأحبابه، كما كان ذلك لسليمان- فإن هناك درجة فوق تلك الدرجة، وهى درجة الابتلاء بالضراء، حيث يجد الإنسان نفسه وكأنه في صراع ضار مع الحياة وخطوبها، وحيث يرى نفسه وكأنه جبل راسخ شامخ تتحطم على صخوره الصلدة، الأمواج الصاخبة، وتتكسر تحت أقدامه القويّة، العواصف العاتية.. وحيث يرى آخر الأمر وقد انتهى هذا الصراع، وانجلى غبار المعركة، وإذا به وبين يديه راية النصر، وعلى جبينه تاج الفوز والظفر! لقد كسب المعركة بهذا الجهد الذاتي، وبهذا الثمن الغالي الذي قدمه من ذات نفسه، عرقا متصببا وأرقا متصلا، وعملا دائبا.
وهذا ما يجعل للنصر هذا الطعم الحلو، الذي لا يعرف مذاقه إلا من ابتلى وصبر، وجاهد وبذل، وحرم نفسه النوم في ظل الراحة والرفاهة، وبات ليله ساهرا، ونهاره عاملا.
وإنه لفرق كبير بين من يجد بين يديه طعاما طيبا حاضرا عتيدا، لم يبذل فيه جهدا، ولم يتكلّف له عملا، وبين من فرغت يده من كل شىء، فيجدّ ويعمل في غير وناء أو فتور، وهو على ما به من حرمان ومسغبة، حتى إذا اجتمع له من سعيه ما يهيء به لنفسه طعاما، كانت عنده كل لقمة من هذا الطعام، أشهى وأطيب من تلك المائدة الحافلة بطيب الطعام والمثل لهذا، ما نجد في حياة الوارث الذي يعيش على ما ورث، وبين العامل الذي يعيش من عرقه وكدحه وجهده..! فحياة الوارث حياة رتيبة مملة ثقيلة، ذات لون واحد، لا يتبدل، بينما حياة العامل خصبة مليئة بالحياة والحركة، وتغاير الطعوم والألوان.
ونجد هذا في الأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- فأصحاب الرسالات الكبرى منهم، هم الذين ابتلوا بالبأساء والضراء.. وعلى قدر ابتلائهم كانت منزلتهم عند ربهم.
إبراهيم عليه السلام، ابتلى بإلقائه في النار.. وبالأمر يذبح ولده إسماعيل بيده، فكان خليل الرحمن وأبا الأنبياء.
وموسى عليه السلام، ابتلى من أول حياته، بإلقائه في اليم رضيعا، ثم بقتله المصرىّ، وطلب فرعون له، وفراره إلى مدين.. ثم بلقاء فرعون، ومواجهته بالدعوة إلى الإيمان باللّه.. ثم كان ابتلاؤه الأكبر في حياته بين بنى إسرائيل، وفى خلافهم عليه، وشرودهم منه.. فكان كليم اللّه.
وعيسى- عليه السلام- نشأ في حجر الابتلاء... تنعقد حوله، وحول أمه التهم والظنون، حتى إذا ظهر في اليهود، كان بينه وبينهم هذا الصراع الطويل المرير، حتى لفّقوا له التهم، وقدموه للحاكم الرومانى، وطلبوا إليه أن يحكم عليه بالصلب، حسب شريعتهم، ولم يسترح لهم بال حتى حكم لهم بصلبه، وحتى شبّه لهم أنهم صلبوه.. وكان كلمة اللّه.
ومحمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد لقى من قومه ألوان المساءة في كل لحظة من لحظات تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضاها في مكة قبل الهجرة.. فلما هاجر كانت حياته قسما مشاعا بين الدعوة إلى اللّه، والجهاد في سبيل اللّه.. يقوم ليله، ويصوم نهاره.. وما شبع من طعام قط، ولا نام إلا على حشية من ليف.. وهو الذي كان يستطيع- لو أراد- أن يأكل في صحاف من ذهب، وأن ينام على فراش من حرير.. فكان خاتم الأنبياء وصفوة الخلق.
وهكذا نجد الابتلاء بالضراء أرجح كفة من الابتلاء بالسراء، في ميزان الصياغة لمعادن الرجال، وصبّهم في قوالب الكمال والإحسان.. ولهذا كان أولو العزم من الرسل، هم الذين ابتلوا وامتحنوا أشق امتحان، وأثقل ابتلاء.
وثالثا: الابتلاء بالشرّ ليس ضربة لازب لأولياء اللّه وأحبابه وأصفيائه، ولكنه الشأن الغالب عليهم، لأن ذلك أشكل بطبيعتهم، وأقرب إلى نفوسهم، لأنهم كلما ازدادوا من اللّه قربا انكشف لهم أمر الدنيا، ومتاعها الغرور، فنظروا إليها نظرة استخفاف واستصغار، لكل ما فيها ومن فيها، ثم إذا هم رأوا تكالب الناس وتزاحمهم على مواردها، زادهم ذلك إحقارا لها، وبعدا عنها.
فهذا الذي نرى فيه أولياء اللّه وأصفياءه، من فاقة، وضرّ، وحرمان، ونعدّه بلاء أو ابتلاء، هو- في الواقع- مطلب لتلك النفوس العظيمة، ورغبة محببة لهذه القمم العالية من عباد اللّه.
إنهم يزهدون فيما تطلبه النفوس، راضين.. وإنهم ليجدون في الحرمان، من الغبطة والرضا، ما لا يجده الواجدون من متع الحياة ومسراتها.
وهكذا تطلب كل نفس غذاءها الذي يهنئوها، ويطيب لها.. وشتان بين الكلاب والأسود.. حيث تتقاتل الكلاب على الجيف، على حين تموت الأسود جوعا ولا تدنو منها.
رابعا- يبتلى المحسنون والصالحون من عباد اللّه بما يبتلون به، وهم على وعد من اللّه سبحانه وتعالى، بأن وراء الضيق فرجا، وبأن مع العسر يسرا.
وأنهم إن صبروا اليوم على الضرّ والأذى، فإنهم لعلى موعد بلقاء غد ينجلى فيه الكرب، وتنقشع غمامات الضر.. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [155- 157: البقرة].
وكما قيل، من أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، فكذلك كل نعمة من نعم اللّه، لا يذوق حلاوة طعمها، ولا يعرف جلال قدرها إلا من حرمها، وطال حرمانه وافتقاده لها، فإذا لقيها بعد هذا، عرف كيف فضل اللّه عليه، وكيف إحسانه إليه، ومن ثم يعرف كيف يؤدّى للّه بعض ما يجب له، من حمد وشكران.
قوله تعالى: {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
جاء ذكر إسماعيل، بعد ذكر أيوب، لأن كلا منهما قد ابتلى ابتلاء عظيما من اللّه، وكلّا منهما كان من الصابرين على ما ابتلى به.
فأيوب، قد كان في عافية، وفى نعمة ظاهرة، ثم ابتلاء اللّه في نفسه وماله وولده جميعا.. فصبر راضيا بحكم اللّه فيه، مطمئنا إلى مواقع الرحمة منه.
وإسماعيل.. قد رأى أبوه في المنام أنه يذبحه بأمر من ربه، فلما أخبره بأمر اللّه، وطلب إليه رأيه، لم يتردد في الجواب، وقال: {يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
وقدّم أيوب على إسماعيل، مع أنه فرع من إبراهيم، وإسماعيل أصل.
لأن أيوب طالت محنته، وطال انتظاره في موقف البلاء سنين، وهو صابر ومصابر، ولم يضجر، ولم يتكثر من الأنين والشكوى. أما إسماعيل فقد كان ابتلاؤه لساعة من الزمن، ثم انجلى الكرب وزالت المحنة.. ومن جهة أخرى، فإن إسماعيل كان- في مواجهة هذا الابتلاء ما يزال غلاما، لم يقع في نفسه، وقوعا واضحا كاملا أثر هذا الفعل الذي هو مساق إليه.. ولهذا كانت البلوى، أو كان الجانب الأكبر منها واقعا على أبيه إبراهيم، ومن أجل هذا كان حسابها مضافا إلى إبراهيم، وإن كان لإسماعيل حسابه، وهو حساب وإن قلّ- بالإضافة إلى أبيه- هو شيء عظيم رائع، ترجح به موازينه في الصابرين من عباد اللّه.. وذلك على حين كان أيوب في دور الرجولة، وفى حال لبس فيها الشباب، والصحة، وذاق حلاوة الغنى، وعرف طعمها، فكان انتزاع هذا كله منه، أشدّ وقعا وأمرّ طعما مما لو وقع عليه ابتداء.
هذا وقد ذكر مع إسماعيل إدريس وذو الكفل.
أما إدريس فهو ممن ذكرهم اللّه من أنبيائه، كما يقول سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا:} [56: مريم].. ولم يذكر القرآن عن إدريس أكثر من أنه كان نبيا وكان من الصابرين.. فلم يكن له في القرآن قصة كقصة، صالح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وغيرهم من رسل اللّه.
وأما ذو الكفل فلم يذكر إلا في هذا الموضع، وقد اجتمع مع النبيين الكريمين: إسماعيل وإدريس، وشاركهما في صفة الصبر.. كما يقول سبحانه {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وقد ذهب معظم المفسرين مذاهب شتى في ذى الكفل وكان أضعف الآراء عندهم فيه، أنه نبى، من أنبياء اللّه.
والرأى عندنا واللّه أعلم- أنه نبىّ، وأن أبرز صفة في حياته كانت صفة الصبر.. أما رسالته، وأما قومه، فشأنه في هذا شأن إدريس، الذي لم يذكر له القرآن رسالة ولا قوما.. كما أننا نرجح أنه زكريا- عليه السلام- لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول اللّه تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} وتسأل: ما حكمة ذكر إدريس وذى الكفل، هذا الذكر الذي لا يحوى إلا اسميهما دون أن تلحق بما قصة تستملى منها العبرة والعظة؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن ذكرهما في القرآن الكريم لم يكن مساقا للعبرة والعظة، ففيما حدث به القرآن من قصص الأنبياء أكثر من عبرة وعظة.. وإنما كان ذكرهما تكريما لهما، وحفظا لاسميهما الكريمين على الزمن، ونظمهما في عباد اللّه المصطفين من أنبيائه ورسله..
وفى هذا تحقيق لأمرين:
أولهما: ما يجده الأحياء الذين يشهدون هذا الحديث، من إحسان اللّه سبحانه وتعالى إلى المحسنين من عباده، بعد أن يتركوا هذه الدنيا، وذلك برفع ذكرهم، وتخليد آثارهم، وفى هذا ما يغرى بالإحسان، وبتمجيد المحسنين.
وثانيهما: ألا يحرم هذان النبيان نصيبهما من دعاء المؤمنين على امتداد الأزمان، حيث يصلّى المصلون على أنبياء اللّه، وحيث يذكرهم الذاكرون واحدا واحدا.
قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}.
ذا النون: هو يونس- عليه السلام- والنون: هو الحوت، وجمعه نينان.. وقد نسب إليه يونس، لأنه عاش في بطنه زمنا- كما سترى.
وقوله تعالى: {إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً} إشارة إلى أنه اختلف مع قومه، فتركهم وذهب بعيدا عنهم، مغاضبا لهم.
وفى قوله تعالى: {مُغاضِباً} إشارة إلى أنه استجلب المغاضبة، واستعجلها، وأنه وإن ظهر له من قومه ما يثير الغضب، ويدعو إلى القطيعة، إلا أنه كان جديرا به أن يصبر، ويصابر، وألّا يأخذ القوم بأول بادرة، فيتخلى عن مقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، مخاطبا النبىّ الكريم، صلوات اللّه وسلامه عليه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [48: ن].
ففى هذا تعريض بيونس- عليه السلام- وأنه لم يصبر الصبر المطلوب من الأنبياء.
وقوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي ظن أن لن نقدر على محاسبته على هذا الموقف، وعقابه عليه.
ولم يكن من يونس عليه السلام هذا الظن بربه، وبقدرته، وإنما حاله التي كان عليها هى التي تعطى هذا الوصف له.. فهو قد فعل فعل من يظن أنه يفعل ما يفعل، ثم لا يجد محاسبا على ما فعل.
قوله تعالى: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
هنا كلام مضمر، يشير إليه العطف بالفاء {فَنادى}.
وهذا المضمر، قد ذكر في آيات أخرى من القرآن الكريم، وفى هذا يقول سبحانه: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [139- 142: الصافات].
فحرف العطف الفاء يشير إلى هذه الآيات.. والمعنى أن يونس لما ذهب مغاضبا قومه، ظانّا أن لن نقدر عليه، أبق أي هرب {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
أي الذي شحن وامتلئ بالناس والأمتعة، حتى فاض، وكاد يغوص في الماء.. وإنقاذا للسفينة من الغرق رؤى أن يتخفف من أمتعتها، ثم من بعض الراكبين فيها، وقد ارتضى الركاب أن يقترعوا فيما بينهم على من يخلى السفينة، ويلقى بنفسه في الماء، ولو كان في ذلك هلاكه، إذ أن في هلاكه نجاة كثيرين.
وقد وقعت القرعة على يونس فيمن وقعت عليهم، ليلقوا بأنفسهم في البحر.
{فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}.
أي الساقطين، المخذولين.. وأرض دحض أي زلق، لا تمسك قدمى من يمشى عليها، وحجة داحجة: أي ساقطة، غير مقبولة.
فلما ألقى يونس بنفسه في الماء، التقمه الحوت. {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} والمراد بالنداء، الدعاء، والتسبيح للّه.. كما يقول سبحانه: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} و{الظُّلُماتِ} هى هذا الظلام الكثيف المشتمل عليه في بطن الحوت، حيث لا ينفذ إليه شعاعة من ضوء.
وقد ذكر المفسّرون أن هذه الظلمات، هى ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل.
وأنه لا حاجة إلى هذا التكلّف، لإيجاد وجه لجمع الظلمات.. والبحر نفسه هو ظلمات، وبطن الحوت ظلمات وظلمات.. فما الحاجة إلى الليل، حتى تصبح الظلمة ظلمات؟ وهل في أعماق البحر، أو في جوف الحوت، حساب للّيل أو النهار، والظلام والنور؟.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ} [40: النور] إن ما في أعماق البحر، ليست ظلمات وحسب، وإنما هى ظلمات، فوق ظلمات، فوق ظلمات! وقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي أن اللّه سبحانه قد استجاب دعاء يونس، ونجّاه مما هو فيه من غمّ، وكذلك ينجى اللّه المؤمنين، مما ينزل بهم من سوء، وما يصيبهم من بلاء.
ويونس لم يدع إلا بقوله: {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
فهو دعاء لم يطلب فيه نجاة أو خلاصا من هذا البلاء الذي هو فيه.. ففيم استجاب اللّه له؟
والجواب- واللّه أعلم- أنه دعا بأفضل دعاء يقتضيه حاله، ويطلبه موقفه.
إنه قد أتى من قبل نفسه، وإنّ نفسه هى التي أوقعته في هذا البلاء، ودفعت به إلى هذا الموقف الذي هو فيه، فهو في دعائه هذا يطلب البراءة من نفسه، والنجاة من شباكها، وذلك بإخلاص العبودية للّه، والبراءة من كل شىء، حتى من نفسه هذه، والاستسلام للّه الذي لا إله إلا هو.
وإنه إذا خلص من نفسه، وبرىء من أهوائها ونوازعها، فقد خلص من كل سوء، وأمن كل مكروه.. ومن هنا كان خلاصه من بطن الحوت، وكانت نجاته من هذا البلاء.. وهكذا كل من يضيف وجوده إلى اللّه، ويبرأ من نفسه وما توسوس له به.. إنه يكون أبدا على شاطىء النجاة!.
قوله تعالى: {وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ}.
وزكريا- عليه السلام- كان مبتلى بالحرمان من الولد، وقد طال انتظاره له، وتطلعه إليه، حتى بلغ من الكبر عتيّا.. فلما بلغ الحدّ الذي يقع عنده اليأس، لم يكن من اليائسين من روح اللّه، فدعا ربّه، وناجاه فيما بينه وبين نفسه، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ}.
وفى قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ} تعقيب على قوله: {لا تَذَرْنِي فَرْداً} أي إن لم تستجب لى، وتهب لى من يؤنسنى، ويرثنى من الولد، فتلك هى مشيئتك، وهى منّى بموضع الاستسلام والرضا، فإذا لم يكن لى الولد الذي يرثنى، فأنت خير الوارثين.. ترث الأرض ومن عليها.
وفى قوله تعالى: {وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ} إشارة إلى ما كان في امرأته من عقم، وأنها بهذا العقم لم تكن صالحة للحمل والولادة، فأصلحها اللّه سبحانه وتعالى، وجعل من المرأة العقيم امرأة ولودا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ}.
الضمير في {إِنَّهُمْ} يعود إلى زكريا، وزوجه، وولدهما يحيى.. فهم جميعا كانوا على حال متقاربة من الإيمان باللّه، والطمع في رحمته، والخوف من عذابه والخشوع لعظمته وجلاله.
والرّغب: الرغبة، والطمع.. والرّهب: الخوف، والخشية.
قوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ}.
التي أحصنت فرجها، هى مريم ابنة عمران.. ولم تذكر باسمها لأنها لم تكن من الأنبياء، والمذكورون هنا جميعا أنبياء، ومنهم ذو الكفل- كما أشرنا إلى ذلك من قبل-.
وقد ابتليت مريم بهذا الابتلاء، الذي تكشّف عن نعمة سابغة، وفضل عظيم، لم يكن لأنثى غيرها.
لقد حملت بنفخة من روح اللّه، وجاءت بالمسيح عليه السلام.. وذلك بعد أن مرّت بهذا الامتحان القاسي، وواجهت من أهلها وقومها هذا الاتهام، الذي لم يكن ليدفعه عنها ما عرفت به في قومها من طهر لا يحوم حوله شك، ومن عفة لا يطوف بها دنس.. ومع هذا فقد واجهت المحنة، واحتملتها في صبر، مستسلمة لأمر اللّه، راضية بحكمه، وكان عاقبة أمرها أن كانت هى وابنها آية للعالمين، تتجلّى فيها قدرة اللّه، وما له في عباده المخلصين من فضل وإحسان.
لقد كانت هى آية من آيات اللّه، إذ ولدت من غير أن تتصل برجل، وكان ابنها آية من آيات، اللّه إذ ولد بنفخة من روح اللّه، من غير أب.


{إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
بعد أن ذكر اللّه سبحانه وتعالى أولئك المصطفين من رسله وأنبيائه وعباده الصالحين.. من نوح الذي يعدّ الأب الثاني للإنسانية بعد آدم، إلى إدريس، الذي يقال إنه كان من ذرية نوح الأقربين، إلى إبراهيم أبى الأنبياء.. إلى مريم أمّ آخر نبىّ في بنى إسرائيل- بعد ذكر اللّه سبحانه وتعالى هؤلاء المكرمين من عباده، من ذكور وإناث، ومن بعيد عهده وقريبه- عقّب على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ}.
إشارة إلى أن هذا هو المجتمع الإنسانى، وتلك هى الأمة الإنسانية، التي يبعث اللّه فيها رسله، ويصطفى منها من يشاء من عباده.. فهذه هى الأمّ التي ينتسب إليها كل إنسان، وفيها هذه الوجوه المشرقة التي عرضتها الآيات السابقة، والتي ينبغى أن يقيم الناس وجوههم عليهم، وأن يقتدوا بهم، فهم جميعا من طينة واحدة، وإنما يكون التفاوت بينهم بالجهد الذي يبذله الإنسان منهم، لإعلاء إنسانيته، ورفعها عن هذا الطين!! وفى قوله تعالى: {أُمَّةً واحِدَةً} إشارة إلى تلك الوحدة التي تجمع الناس جميعا. وتجعل منهم مجتمعا واحدا، وإن اختلفوا ألسنة، وتباينوا ألوانا، وتناءوا ديارا وأوطانا.
وقوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ.. فَاعْبُدُونِ} أي أنه سبحانه ربّ جميع الناس، وراعيهم وكالئهم، فكلهم خلقه وصنعة يده، وكلهم غذىّ نعمته وإحسانه.. تقلّهم أرضه، وتظلهم سماؤه، وتغاديهم وتراوحهم نعمه.
وإذا كان هذا صنبعه بهم، وشأنه فيهم، فهو المستحق للعبادة والطاعة والولاء.
فمن شرد عن اللّه، وبعد عن مكانه الذي ينبغى ان يأخذه بين عباده، وأبى أن يستمع لناصح، أو يستجيب لداع، أو يحفل بنذير، فقد سعى بنفسه إلى حتفه، وأزهق روحه بيده.
وانظر مرة أخرى في قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.. وَأَنَا رَبُّكُمْ.. فَاعْبُدُونِ} تجد هذه المعادلة:
هذه أمتكم.. أمة واحدة.
وهذا أنا ربكم.. إله واحد.. لا ربّ لكم غيره.
والنتيجة اللازمة لهذه المعادلة هى:
{فَاعْبُدُونِ} إذ أنتم مربوبون، وأنا الرّبّ.
أنتم العباد، وأنا ربّ العباد.
أنتم العابدون.. وأنا المعبود.
قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ}.
واو العطف هنا تشير إلى معطوف عليه محذوف.. وهذا المحذوف هو من تفريعات الأمر الذي أمر به الناس في قوله تعالى: {فَاعْبُدُونِ}.
وهو جواب عن سؤال مقدّر يقتضيه الحال وهو: ما ذا كان من الناس إزاء هذا الأمر الذي أمروا به؟ فكان الجواب، لم يكونوا على طريق واحد، بل اختلفوا، وتقطعوا شيعا وأحزابا.. فكان منهم المطيع، وكان منهم العاصي. منهم المؤمن، ومنهم الكافر.. منهم عابد الرحمن، ومنهم عابد الشيطان.. {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}.
وفى إضافة الأمر إليهم، إشارة إلى أنه الأمر الذي هو ملاك صلاحهم وفلاحهم، وهو الإيمان اللّه.
وقوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ} أي أن كل فريق منهم راجع إلى اللّه، ومحاسب على ما كسب من خير أو شر.
قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ.. وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ}.
هو بيان لما يكون عليه الناس عند رجوعهم إلى اللّه يوم القيامة.. فمن عمل صالحا وهو مؤمن، تقبّل اللّه عمله، وكتبه له.. وسيجزيه عليه الجزاء الأوفى.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هو قيد لقبول الأعمال الصالحة، فلا يقبل من غير المؤمنين عمل وإن كان صالحا، إذ لم يزكّه الإيمان باللّه، وكل عمل لا يزكّيه الإيمان باللّه، هو باطل، لا وزن له.
قوله تعالى: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}.
هو بيان للوجه المقابل للمؤمنين، وهو وجه الكافرين.. وقد جاء النظم القرآنى على هذا الأسلوب، ليكشف عن حال هؤلاء المجرمين في الدنيا، والآخرة معا.
فهم في الدنيا معرّضون للهلاك، الذي يعجّل للظالمين.. وهم في الآخرة واقعون تحت عذاب اللّه، مسوقون إليه، يتمنّون أن يعودوا إلى الدنيا، ليصلحوا ما أفسدوا.. ولكن هيهات.. هيهات.
وقوله تعالى: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ومحكوم على أية قرية هلكت ألا يرجع أهلها مرة أخرى إلى الدنيا، أو أن يفرّوا من هذا العذاب المعدّ لهم.
وفى التعبير عن الحكم بلفظ الحرام، تأكيد لهذا الحكم، وجعل عودتهم إلى الدنيا من المحرمات، التي إن ارتكبها المجرمون، فإنها لا تجىء من عند اللّه! تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، فكما كتب سبحانه على نفسه الرحمة، حرّم سبحانه على نفسه أن يرجع الموتى إلى الدنيا مرة أخرى، وإنما يبعثهم للحساب والجزاء.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}.
يأجوج ومأجوج، وهم من الجماعات المفسدة في الأرض، وقد ذكرهم اللّه تعالى في قصة ذى القرنين، وقد أقام ذو القرنين في وجههم سدّا، حتى لا ينفذوا منه إلى مواطن العمران، ويعيثوا في الأرض مفسدين.
وفى هذا يقول ذو القرنين عن السدّ: {هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} وفى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} إشارة إلى انهيار هذا السدّ، وفتح الطريق ليأجوج ومأجوج إلى الأمم المجاورة لهم.
والحدب: المكان المرتفع، ومنه الأحدب، الذي برز ظهره، وعلا.
ثم انحنى.. ومنه الحدب، وهو الميل والعطف، وينسلون: أي يجيئون في خفة وانطلاق.. كأنهم جراد منتشر.
هذا، وقد ربط القرآن خروج يأجوج ومأجوج بقرب الساعة.
والساعة قربت من يوم نزول القرآن، كما يقول تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وكما يقول سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ}.
وعلى هذا، فليس بالمستبعد أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا من هذا السدّ، بعد أن تداعى وانهار.. ومن يدرى؟ فلعلهم التتار الذين طلعوا على الدولة الإسلامية، وأتوا على معالم الحضارة، في عاصمتها بغداد، وفى كل ما وقع لأيديهم من كل عامر، حتى لقد قيل إنهم ألقوا بما حوت الخزائن من كتب في نهر دجلة، وكان هذا شيئا كثيرا سدّ به النهر! وربما كانت أمة الصين، التي كانت تعيش في شبه عزلة عن العالم، وها هى ذى اليوم تتجمع وراء حدودها، وقد ملكت في يدها القنبلة الذرية.. وإنه ليس ببعيد هذا اليوم الذي تغزو فيه العالم كلّه.. بهذا السلاح الرهيب..!
وقد تحدثنا عن يأجوج ومأجوج، وما قيل فيهم من مقولات، في تفسير سورة الكهف.
قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ}.
والوعد الحق.. هو يوم القيامة.. شاخصة أبصار الذين كفروا: أي جامدة، لا تطرف، من شدّة ما ترى من هول.
والآية معطوفة على محذوف، هو غاية {حتى} في قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}.
والتقدير: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون، وقع الفساد والاضطراب، واقترب الوعد الحق. حيث هذا النذير الذي يقوم بين يدى هذا اليوم، وهو ذلك الهول الذي تشخص له أبصار الذين كفروا يوم القيامة.
وفى قوله تعالى: {فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إشارة إلى أن اقتراب الساعة، وظهور أماراتها، ومنها خروج يأجوج ومأجوج- يطلع منه على الكافرين ما تشخص به أبصارهم، فتظل الحدق معلقة في الأعين، ثابتة لا تتحرك، للهول الذي يرونه.. إنهم في طريقهم إلى الفزع الأكبر.. إلى جهنم، أعاذنا اللّه منها.
وقوله تعالى: {يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ}.
هو حكاية لما يتنادى به الكافرون يومئذ، وهم في فزع القيامة، وبين يدى يومها الموعود.. إنهم يدعون بالويل والثبور، ويندبون أنفسهم وهم على طريق الهلاك.
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ}.
هو صوت الإغاثة الذي يغاث به الكافرون، وهم يولولون، ويندبون.
وإنه لصوت مفزع، يدخل عليهم بما يزيدهم كربا وجزعا: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي إنكم الحصى الذي تحصب به جهنم، أي إنهم يلقون فيها هم وآلهتهم كما يلقى بالحصى في حفرة، بلا وزن ولا حساب.
قوله تعالى: {لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ}.
أي لو كان هؤلاء الذين يعبدهم المشركون، آلهة ما وردوا جهنم، ولا دخلوها معهم.. إذ كيف يكون إلها من يلقى به في جهنم؟ {وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ} أي كل من هذه الآلهة وعابديها، واردون جهنم وخالدون فيها.
وهؤلاء وأولئك جميعا يعانون من ألوان العذاب أهوالا، فأنفاسهم في جهنم زفير متصل، مما يلفظونه من أجوافهم التي تغلى، وليس لهم فرصة يأخذون منها شهيقا وإن كان من لهب جهنم، وقد أصابهم الصمم من هذا الزفير المتلاحق، الذي لا يأذن لشىء يدخل إلى كيانهم.. والمعبودون هنا هم أولئك الضالّون المغرورون الذي دعوا الناس إلى عبادتهم وأقاموا أنفسهم آلهة عليهم.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.
تعرض هذه الآيات الثلاث ما يلقى المؤمنون يوم القيامة من ربهم، من كرامة وتكريم.. وقد وصفوا بأنهم الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى، لأن إيمانهم باللّه، وتوفيقهم للأعمال الصالحة، لم يكن إلا بما سبق من علم اللّه بهم، وإرادته فيهم، وأنهم كانوا في علم اللّه، وبمقتضى إرادته من أصحاب اليمين.
هكذا خلقهم اللّه أزلا.. فلما جاءوا إلى هذه الدنيا، جروا على ما علم اللّه منهم، وعلى ما أراد لهم، فآمنوا، وعملوا الصالحات، وكانوا من عباد اللّه المكرمين.
فالإيمان والكفر، والهوى والضلال، وأصحاب الجنة وأصحاب النار.
كلّ ذلك في علم اللّه القديم، وفى إرادته السابقة.. كما يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن] وكما يقول جلّ شأنه: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [7: الشورى].
وقد شرحنا هذه القضية في مبحث خاص تحت هذا العنوان: مشيئة اللّه ومشيئة العباد.
فهؤلاء الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى، هم مبعدون عن تلك النّار التي يتقلب على جمرها، ولهيبها، الكافرون والضالون.. فلا يخلص إلى المؤمنين شيء من حرّها، ولا يصل إلى أسماعهم حسّ من زفيرها وشهيقها {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها} حتى لا تتأذى مشاعرهم بهذه الأصوات الرهيبة، المفزعة، {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ} أي أنهم يلقون في الجنة ما تشتهى أنفسهم، من نعيم دائم لا ينقطع أبدا.. {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} أي أنهم لا يجزعون ليوم القيامة ولا يفزعون منه، إذ ملأ اللّه قلوبهم طمأنينة وأمنا، بما أراهم من فضله، وبما استقبلتهم به الملائكة من بشريات بهذا الفضل، إذ الملائكة يلقونهم على أول الطريق في هذا اليوم، ويقولون لهم: {هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذا اليوم يوم جزاؤكم، ونعيمكم، ورضوانكم، الذي وعدكم اللّه به، ولن يخلف اللّه وعده.. فهيّا استقبلوا ما وعدكم اللّه من رضوان، وجنات لكم فيها نعيم مقيم.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ}.
{يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} ظرف متعلق بقوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} لا يحزن الذين لهم من اللّه الحسنى، الفزع الأكبر في هذا اليوم، الذي نطوى فيه السماء كطىّ السجل للكتب، وهو يوم القيامة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.. ويصح أن يكون هذا الظرف {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ} متعلقا بقوله تعالى: {نُعِيدُهُ} أي نعيد الخلق كما بدأناه، وذلك يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب.
وطىّ الشيء، ضمه، ولفّه كما يلفّ البساط ويطوى.
وطى السماء، ضمها، ولفّها، فينكشف هذا السقف المعقود بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً}.
فالسماء تطوى كما يطوى السّجلّ، بما كتب فيه، فهى تطوى بعوالمها كلها، من كواكب وشموس وأقمار.
والسجلّ: أصله الحجر، الذي يكتب عليه، ثم استعمل لكل ما يكتب عليه، من جلد وورق ونحوه.. وللكتب: أي على الكتب.. والكتب بمعنى المكتوبات.
وهذا التحول في العوالم العلوية والسفلية، إنما هو تصوير لما يقع في مفهوم الإنسان، حين ينتقل إلى الدار الآخرة، حيث يشهد الوجود على غير ما يقع لحواسه ومدركاته وهو في هذه الدنيا.
وهذا يعنى أن الإنسان بعد أن يفارق هذا الجسد، يعود إلى عالم الرّوح، فينطلق من أسر هذا الجسد المحدود، ويسبح في عالم ماوراء المادة، وهناك يرى الأرض، والسماء غير السماء.. كما يقول سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} [48: إبراهيم].. فهذا التبدل هو تبدّل فيما يقع على تصورات الإنسان ومدركاته، بانتقاله من العالم المادي إلى العالم الروحي.. وإلا فإن العوالم ثابتة على ما أقامها اللّه سبحانه وتعالى، في هذا النظام المحكم.
فالأمر إذن، ليس كما يتصور الذين أخذوا أوصاف يوم القيامة التي جاء بها القرآن، على هذا التصور الذي تذهب به معالم الوجود كلّه، وتنقلب أوضاع السموات والأرض.
وكلّا، فإن هذا الوجود العظيم، ليس للإنسان، ولا من أجل الإنسان، وإنما الإنسان ذرة من ذراته، وشىء من أشيائه.. وإن التغير والتبدل واقع عليه هو، فتتغير لذلك مدركاته، ويرى الوجود، والموجودات بعين غير التي يراها عليه، وهو في هذا الكيان المادي.. وذلك يوم يكشف هذا العطاء المادىّ، الذي يحجب نظر الإنسان، ويحصره في هذه الدائرة المحدودة الضيقة، وعندئذ يرى ما لم يكن ليراه في عالمه المادىّ، كما يقول سبحانه: {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22: ق].
وإذا صحّ الحديث الذي يروى عن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته» فهذا يعنى أن كل من مات وانتقل إلى العالم الآخر، يرى الوجود قائما على هذه الصورة التي يصوّر فيها القرآن مشاهد القيامة، وما يتبدل من معالم الوجود.. فهو تبدل في مدركات الإنسان وفى تصوراته، بعد خلاصه من الجسد وتحرره من أسر المادة.
وفى قوله تعالى: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي أننا نعيد الموتى وننشرهم كما خلقناهم ابتداء، فلا يصحّ للمشركين والكافرين، الذي يكذبون بيوم الدين، أن ينكروا هذا البعث، وأن يستبعدوه.. فهو أهون من الخلق ابتداء {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}.
{وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [78، 79: يس]- وفى قوله تعالى: {أَوَّلَ خَلْقٍ} وفى تنكير {خَلْقٍ} ما يفيد الاستغراق والعموم، فهو بمعنى أول كل خلق.. كما يفيد أيضا أن كلّ مخلوق له خلق خاصّ به، وأن له من علم اللّه وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا خاصَّ به، وأن له من علم اللّه وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [49: القمر].
وقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} أي إن إعادة الموتى إلى الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء، هو أمر قضى اللّه به، ولا رادّ له.
وفى هذا يقول سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ} [15- 16: المؤمنون] ويقول جل شأنه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [7: التغابن].
وهذا وعد من اللّه، ولن يخلف اللّه وعده وقد أكّده سبحانه بقوله: {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ}.
وهو وعد لا يحتاج إلى توكيد، عند المؤمنين، وإنما التأكيد منظور فيه إلى الكافرين، الذين يكذبون بيوم الدين.

1 | 2 | 3 | 4